ادعمنا

النظرية البنائية في تفسير الدراسات الأمنية - Constructivism in Security Studies

إن القضية المحورية في عالم ما بعد الحرب الباردة هي بروز قضايا جديدة في الأجندة السياسة العالمية، ارتبطت خصوصا بمتغير الهوية والمصلحة، وأيضا طبيعة الفواعل وأنطولوجية التحليل، وفي ضوء هذه التغيرات تطور أيضا مفهوم الأمن واكتسب مفاهيم متعددة حسب النظريات المفسرة للسياسة العالمية ومن بينها نجد النظرية البنائي التي أعطت تفسيرا خاصا للأمن ارتبط بأطر تحليلية خاصرة ركزت علة الهوية، والتاذاتانية وغيرها...

 

الجذور التاريخية للنظرية البنائية:

ترجع أصول النظرية البنائية إلى القرن الثامن عشر في كتابات الفيلسوف الإيطالي "جيامباتيستا فيكو" فهي بذلك فكرة قديمة في تاريخ الفكر السياسي، غير أنها برزت كنظرية قائمة بذاتها في مجال العلاقات الدولية مع كتابات "ألكسندر وندت“،و " نيكولاس أنوف"، حيث جاءت البنائية كرد فعل على النظريتين الواقعية والليبرالية الجديدة بعد أن فشلتا في تكوين بنية للنظام الدولي وتفسير الجانب المعياري، ويعد "نيكولاس أنوف" أول من استعمل مصطلح البنائية ويرجع له الفصل في فتح النقاش حولها في العلاقات الدولية في كتابة: "عالم من صنعنا" في نهاية عام  1989 منتقدا فيه أفكار وفرضيات واقعية والتز الجديدة، كما ارتبط التصور البنائي كثيرا بإسهامات "ألكسندر وندت "الذي مثلت كتاباته مرجعية أساسية في دراسة السياسة الدولية، وهو الذي لقب بأبي البنائية لكونه أكثر من عبر عن مضامين النظرية البنائية، خصوصا في دراسته الصادرة عام 1992 "الفوضى هي ما تصنعه الدول: التفسير الاجتماعي لسياسة القوة".

 

أسس التحليل الابستيمولوجي للبنائية في الدراسات الأمنية: 

1- التاذاتانية عند البنائية:

تعرف التاذاتانية على أنها الأفكار المشتركة، والتي تشكل من قبل الهویات والمصالح والجهات الفاعلة، وهذه الأفكار موجودة عند الأفراد في شكل نحن نعتقد... فاللغة تاذاتانیة فهي من المعاني المشتركة لمستخدمیها ، ویعاد إنتاجها من خلال ممارساتهم وهذه الممارسة تشكل بواسطة القواعد المتضمنة في اللغة وعلیه "فآدلر" یعرّ ف التذاتانیة بأنها أشیاء مادیة ، أفكار ذاتیة ، المفاهیم التذاتانیة؛ بمعنى الوقائع الإجتماعیة التي لایمكن أن توجه بدون الأشیاء المادیة والأفكار الذاتیة ولولا المعنى المشترك لها لعرفت أنها مجرد قطع من حدید فقط، وبالتالي هنا التركیز على التفاعل الإنساني ، على اعتبار أن الحقیقة هي إجتماعیة بمعنى أن مانراه هناك أو في أنفسنا قد تطور بتفاعلنا مع الآخرین ومنه أن البنائیة ترى أن بناء الواقع الاجتماعي معرّض لمسار متواصل من التعلم والذي یسمح بتكوین ارتباط بین مصدر الواقع الاجتماعي وتطوراتها المستقبلیة المحتملة وهو ما یسمى بالتطور المعرفي ، فهو یمثل مسار من الإبتكار والإنتشار الداخلي والخارجي والتي تخلق الإدراك التذاتاني.

2- تقنية تحليل الخطاب:

استخدمت البنائية المنهج العلمي السلوكي في معالجة بعض المسائل مثل معتقدات وإدراكات الفاعلین ومواقفهم، ومنه كان المنهج المثالي الذي یركز على دور الأفكار في الحیاة الاجتماعیة، یلعب دورا مقابل العوامل المادیة، ومنه البنائیة حاولت المزاوجة بین المنهج العلمي في ممارسة البحث الاجتماعي من جهة والإستفادة من المناهج القائمة على التفاعلیة الرمزیة والسیكولوجیة في تحلیل وفهم السلوكیات الإجتماعیة والإنسانیة من جهة أخرى، ومن أهم هذه المناهج هي تقنیة تحلیل الخطاب خاصة تحلیل مسألة الهویة سواء الخطاب الرسمي أو خطاب المجتمع الذي یعبر عن القیم والمعتقدات المكونة لمجموع الهویات من الأفراد، حیث عملت البنائیة استبدال خطاب الواقعیة بخطاب اجتماعي یؤكد على السلام والأمن، وركزت على الخطاب السائد داخل المجتمع والذي ساهم بشكل فعال في فهم سلوكیات الدول.

 

أسس التحليل الأنطولوجي للبنائية في الدراسات الأمنية:

1- البنائية ومشكلة الفاعل:

إن البنائیون لا یرفضون الجانب المادي لمختلف الظواهر المكوّنة للعلاقات الدولیة بل یركزون على البنى لفهم سلوكات مختلف الفواعل والتي تدرك وتفهم هذه السلوكات، حيث ینطلق البنائیون من السؤال التالي: هل الظواهر الاجتماعية بما فبها السیاسة الدولیة ینبغي تفسیرها بإرجاعها إلى أفعال ودوافع الأفراد، أم بالرجوع إلى المجتمع وهیكلته؟ فالواقعیون الجدد یرون أن أفعال السیاسة الدولیة بسبب الفوضى الهوبزیة وغلبة السلوك الأناني، وبالتالي تفسیر سلوك الدول من خلال بنیة النظام الدولي، حیث یرى البنائیون على أن العلاقة بین البنى، والفواعل تبادلیة، أي البنى تسهم في تشكیل الفواعل، وأن الفواعل تعمل على إعادة تشكیل البنى أي العلاقة التفاعلیة على اعتبار أن البنى هي نتاج الممارسة الاجتماعية التي تتضمن نشاطات مختلف الفواعل

2- الهوية والمصالح في السياسة العالمية:

يعد مفهومي الهوية والمصلحة من بين أهم الأدوات التحليلية عند البنائيين، فمن وجهة نظرهم، تتمتع كل دولة بهويتها الخاصة المشكلة اجتماعيا عبر المعايير، القيم، والأفكار المؤسساتية للبيئة الاجتماعية التي تتفاعل فيها الدول، "فالهويات لا تخرج عن كونها علاقات اجتماعية تتغير عبر الزمن والسياقات... ولكونها كذلك فهي ليست بصفات ثابتة للأفراد أو الجماعات، فالأفراد ينتجون ويعيدون انتاج ذواتهم أكثر من كونها قد خلقت معهم"، فالدول تتمتع بهوية مؤسسية تولد من خلالها أهدافها الرئيسية كالأمن والاستقرار أو التنمية الاقتصادية، ويعتمد تحقيقها لمثل هذه الأهداف على هويتها الاجتماعية، أي كيف تنظر الدول لنفسها في مقابل الدول الأخرى في المجتمع الدولي، وعليه فهي تقوم ببناء مصالحها الوطنية على أساس هذه الهويات، ومن المهم إدراك المعنى الحقيقي للمؤسسة عند البنائيين، فهم يرون في المؤسسة مجموعة ثابتة مؤلفة من هويات ومصالح، كما أنها عبارة عن كيانات إدراكية أو معطيات معرفية لا يمكن الفصل بينها وبين أفكار الفاعلين حول الطريقة التي يعمل بها العالم، وبناءا على هذه الرؤية فإن المؤسسات هي عملية استيعاب داخلي للهويات والمصالح الجديدة، وليست مسعى يقع خارجها ويؤثر فقط في السلوك.

3- الفوضى:

النظرية البنائية لا تقبل بمسلمة فوضوية النظام الدولي بل تُمشكلها، فهي غير معطاة بل تحاول مناقشتها لأن الدول هي التي تحدد البنية بالرجوع إلى القيم والسلوك، فالفوضى الدولية والبحث في القوة هي من تكوين صناع القرار وليست حقائق موضوعية فهي تكوين وبناء ذاتي، وتؤكد البنائية على قضية توظيف الأمن والفوضوية لخدمة مصالح أخرى، وبما أن الهويات متعددة المصادر من حيث التشكل وليست ذاتية وبما أنها أساس المصلحة القومية فانه رغم إشارة هذه الأخيرة إلى مستلزمات الأمن فإنه لا يمكن أن تحدد من خلال مقاربة أنانية، حيث أن الفوضى الدولية التي تعيش وتتحرك فيها الدول والتي تصقل هوياتها، وبالتالي مصالحها ليست إلا ما تصنعه الدول، وليست حتما مرادفا لحالة الحرب كما يقول الواقعيون وعليه، فإن "واندت" يفرق بين ثلاث أنواع من الفوضى، فلما تنظر الدول إلى بعضها البعض كأعداء فان البنية الدولية مشكلة لفوضى هوبزية، ولما تنظر إلى بعضها البعض كمتنافسة فان البنية الدولية مشكلة لفوضى لوكية، وعندما تنظر إلى بعضها البعض كأصدقاء فإنها مشكلة لفوضى كانطية، ويرى "واندت" أن هذه الثقافة الهوبزية المحددة للمصلحة القومية بشكل حصري وإقصائي، وبالتالي أناني وفق علاقات القوى لم تعد موجودة في عالم اليوم باستثناء بعض الحالات الشاذة أو الظرفية، وعليه العالم تطور نحو ثقافة لوكية بل وحتى كانطية .

ومنه يمكن القول أن البنائيين لديهم تفاؤل فيما يخص مشكلة وطبيعة النظام الدولي باقتناعهم أنه ليس هناك صراع أو تنافس أبدي بين القوى العظمى من أجل القوة وبذلك تتبنى البنائية نظرة تعاونية غير الذي اعتمد على فكرة الأمن الجماعي، وبذلك تتبنى البنائية نظرة تعاونية غير صراعية للسياسة الدولية في حالة تتميز بالفوضى، هذه الأخيرة التي هي مزيج مهيكل ناتج عن ممارسات الفاعلين وتبعا لمصالحهم وهوياتهم يساهمون في: تشكيل إنتاج، تحويل أو تغيير هذه البنية لذا يقول "واندت ، "أن الفوضى هي ما تصنعه الدول".

 

الأمن كبناء اجتماعي:

تناول البنائيون موضوع الأمن كغيره من المفاهيم بالنظر إلى السياقات التاريخية والاجتماعية المختلفة التي تلعب فيها عملية التفاعل الاجتماعي بين الفواعل دور بارز في بناء هذا المفهوم، فمن خلال التركيز على العوامل المثالية أو الغير مادية "الهوية والمعايير والثقافة" لبناء وممارسة الأمن، يقدم البنائيون عناصر تحليلية جديدة تعتبر مغايرة للتحليلات التقليدية والمجردة للأمن أو بالأخص التحليلات الليبرالية والواقعية، حيث أشار "تيد هوبف" إلى عدم إمكانية وجود ادعاء عالمي ومجرد عن مصدر التهديد في السياسة العالمية، فبالنسبة "لتيد هويف" القادة السياسيين في الدولة واعتمادا على مفهوم الهوية يصنفون الدول إما عدوة أو صديقة، أما "وندت" ومن خلال ربطه لثلاثية الهوية/العون-الذاتي/الفوضوية جادل بأن الهوية تشكل أساس مصالح وسلوكات الدول، وأن العون-الذاتي يمثل إحدى بنى الهوية والمصالح أنتجته الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي وبالتالي: "مفاهيم الأمن تختلف حسب مدى و طريقة تعريف الذات للآخر".

 

المصادر والمراجع:

سليم قسوم، الاتجاهات الجديدة في الدراسات الأمنية: دراسة في تطور مفهوم الأمن في العلاقات الدولية. الامرات العربية المتحدة: مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ب.س.ن.

أحمد محمد أبو زيد، "نظرية العلاقات الدولية"، "مجلة العربية للعلوم السياسية"، ع36، 2012.

سعود الحاج، "الاستراتيجية الشرعية والاستمرار للأنظمة السياسية العربية: دراسة بنائية للخطاب السياسي". مذكرة تخرج لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية، جامعة المسيلة 2015.

جويدة حمزاوي، "التصور الأمني الأوروبي: نحو بنية أمنية شاملة وهوية استراتيجية في المتوسط". جامعة الحاج لخضر باتنة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، مذكرة مكملة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية، تخصص دراسات مغاربية ومتوسطية في التعاون والأمن،2011.

محمد الطاهر عديلة، تطور الحقل النظري للعلاقات الدولية :دراسة في المنطلقات والأسس .مذكرة لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ،تخصص علاقات دولية ،جامعة الحاج لخضر باتنة، كلية الحقوق والعلوم السياسية قسم العلوم السياسية،2015.

فايزة غنام، " التعاون الأمني الأورو مغاربي: دراسة حالة حوار 5+5 – 201- 2011". مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في الدراسات المتوسطية و المغاربية في الأمن و التعاون"، جامعة مولود معمري تيزيوزو، كلية الحقوق و العلوم السياسية، قسم العلوم السياسية  العلاقات الدولية، مدرسة الدكتوراه في القانون و العلوم السياسية، 2011.

قلمين وهيبة. "النظرية البنائية في الدراسات الأمنية". مذكرة تخرج لنيل شهادة الماستر في العلوم السياسية،  تخصص استراتيجية وعلاقات دولية، جامعة محمد بوضياف لمسلة، 2016.

أمينة مصطفى دلة. "الدراسات الأمنية النقدية". (جامعة الجزائر3، كلية العلوم السياسية والاعلام، قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تخصص دراسات استراتيجية، 2013.

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia